السؤال: طرح أحد النصارى شبهة وهي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل رسالة إلى هرقل وإلى المقوقس ذكر فيها هذه الآية : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران/64، وكان هذا في العام السادس من الهجرة . وعند الرجوع لأسباب النزول في كتاب " أسباب نزول القرآن " للواحدي , نجد أن صدر سورة آل عمران إلى الآية/84 قد نزل في وفد نجران في العام التاسع من الهجرة . فكيف يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الآية قبل موعد نزولها ؟ جزاكم الله خيراً .
الجواب :
الحمد لله
أولا :
اعلم أولا أن أكثر الشبهات التي يتناقلها الطاعنون لا تتعلق بأصول الدين وثوابته ، ولا على محكمات الشريعة وقواطعها ، ولا على مجمل الكتاب والسنة ، وإنما تتعلق ببعض الروايات والأخبار ، وشيء من الألفاظ التي لا يقوم عليها الدين ، بل لو لم ترد أصلا لما نقص من الدين شيء .
وهكذا ينبغي على الناظر في الشبهة قبل الجواب عليها أن يبحث في قدرها ومحلها ، كي لا يلبس عليه الشيطان ، فيتوهم – إذا تكاثرت عليه الإيرادات – أن ذلك دليلٌ على ضعف الدين واضطرابه ، في حين أن تلك الشبهات دليلٌ على قوته ومتانته وسلامة أصوله وثوابته .
ثانيا :
أما الجواب عن الروايات الواردة في السؤال تفصيلا فنقول :
نعم ، حصل تعارض – ظاهري - في الأخبار والروايات في شأن توقيت نزول قوله تعالى : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران/64.
فدلت الأخبار الصحيحة على أن نزولها وقع في فترة صلح الحديبية ، في العام السادس من الهجرة :
تجد ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي سفيان :
( أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ - فسأله عن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم في حديث طويل جاء فيه - :
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى ، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى ، أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَ ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )
رواه البخاري (رقم/7) ومسلم (رقم/1773)
ودلت أخبار أخرى على أن أوائل سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية قد نزل في وفد نجران ، ومعلوم أن وفد نجران إنما قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في العام التاسع من الهجرة .
تجد ذلك في كتاب " السيرة " لابن إسحاق – كما في " تهذيب سيرة ابن إسحاق " لابن هشام (1/547) - قال ابن إسحاق :
" وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال : لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات – إلى أن قال - : فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها " انتهى.
فإذا تبين ما سبق عرفنا أن المنهج العلمي يقضي بترجيح الرواية الأولى على الثانية ، لأن الرواية الأولى صريحة صحيحة ، مروية في أصح الكتب بعد كتاب الله ، أما ما نقله ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير فغايته أنه من المراسيل ، فمحمد عاصر صغار التابعين ، ولم يدرك الصحابة فضلا عن إدراك زمن وفد نجران ، فالغالب أن الخطأ وقع في هذا المرسل ، وأن أوائل سورة آل عمران نزل في وفد نجران ، ولكن ليس إلى بضع وثمانين آية ، بل قبل ذلك ، ولعله إلى بداية الآية رقم : (62) ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإنها تشعر بانتهاء مقطع وفصل خاص ، وانتقال إلى معرض جديد فيه تقرير من وجوه أخرى لتوحيد الألوهية .
فالجواب الذي نراه متجها قويا هو ترجيح الرواية الأولى لصحتها ، وترك قوله في الرواية الثانية ( صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ) لضعفها وإرسالها .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وقوله تعالى : ( تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) آل عمران/64. بعدها آيات نزلت قبل ذلك – يعني قبل قدوم وفد نجران - ، كقوله : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) آل عمران/70-71، فيكون هذا مما تقدم نزوله ، وتلك مما تأخر نزوله ، وجمع بينهما للمناسبة كما في نظائره ، فإن الآيات كانت إذا نزلت يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يضعها في مواضع تناسبها ، وإن كان ذلك مما تقدم .
ومما يبين ذلك أن هذه الآية - وهي قوله تعالى ( تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) - لفظها يعم اليهود والنصارى ، وكذلك ذكر أهل العلم أنها دعاء لطائفتين ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بها اليهود ، فدل ذلك على أن نزولها متقدم ، فإن دعاءه لليهود كان قبل نزول آية الجزية ، ولهذا لم يضرب الجزية على أهل خيبر وغيرهم من يهود الحجاز " انتهى.
" الجواب الصحيح " (1/208-209)
ومع ذلك فقد أجاب أهل العلم بأجوبة أخرى نذكرها ههنا على سبيل الاستئناس .
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" الجواب من وجُوه :
أحدها : يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين ، مَرّةً قبل الحديبية ، ومرة بعد الفتح .
الثاني : يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى عند هذه الآية ، وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك ، ويكون قول ابن إسحاق : ( إلى بضع وثمانين آية ) ليس بمحفوظ ، لدلالة حديث أبي سفيان .
الثالث : يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية ، وأن الذي بذلوه مُصَالحةً عن المباهلة لا على وجه الجزية ، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ، ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك ، كما جاء فرض الخمس والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ، ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك .
الرابع : يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكَتْب هذا الكلام في كتابه إلى هرقل لم يكن أنزل بعد ، ثم نزل القرآن موافقة له ، كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحجاب وفي الأسارى ، وفي عدم الصلاة على المنافقين ، وفي قوله : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) البقرة/125، وفي قوله : ( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ) التحريم/5 " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (2/56-57)
والله أعلم .
الجواب :
الحمد لله
أولا :
اعلم أولا أن أكثر الشبهات التي يتناقلها الطاعنون لا تتعلق بأصول الدين وثوابته ، ولا على محكمات الشريعة وقواطعها ، ولا على مجمل الكتاب والسنة ، وإنما تتعلق ببعض الروايات والأخبار ، وشيء من الألفاظ التي لا يقوم عليها الدين ، بل لو لم ترد أصلا لما نقص من الدين شيء .
وهكذا ينبغي على الناظر في الشبهة قبل الجواب عليها أن يبحث في قدرها ومحلها ، كي لا يلبس عليه الشيطان ، فيتوهم – إذا تكاثرت عليه الإيرادات – أن ذلك دليلٌ على ضعف الدين واضطرابه ، في حين أن تلك الشبهات دليلٌ على قوته ومتانته وسلامة أصوله وثوابته .
ثانيا :
أما الجواب عن الروايات الواردة في السؤال تفصيلا فنقول :
نعم ، حصل تعارض – ظاهري - في الأخبار والروايات في شأن توقيت نزول قوله تعالى : ( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) آل عمران/64.
فدلت الأخبار الصحيحة على أن نزولها وقع في فترة صلح الحديبية ، في العام السادس من الهجرة :
تجد ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي سفيان :
( أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَكَانُوا تِجَارًا بِالشَّأْمِ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَادَّ فِيهَا أَبَا سُفْيَانَ وَكُفَّارَ قُرَيْشٍ - فسأله عن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم في حديث طويل جاء فيه - :
ثُمَّ دَعَا بِكِتَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي بَعَثَ بِهِ دِحْيَةُ إِلَى عَظِيمِ بُصْرَى ، فَدَفَعَهُ إِلَى هِرَقْلَ فَقَرَأَهُ فَإِذَا فِيهِ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، مِنْ مُحَمَّدٍ عَبْدِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ ، سَلَامٌ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى ، أَمَّا بَعْدُ ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ يُؤْتِكَ اللَّهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ وَ ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَنْ لَا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ )
رواه البخاري (رقم/7) ومسلم (رقم/1773)
ودلت أخبار أخرى على أن أوائل سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية قد نزل في وفد نجران ، ومعلوم أن وفد نجران إنما قدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في العام التاسع من الهجرة .
تجد ذلك في كتاب " السيرة " لابن إسحاق – كما في " تهذيب سيرة ابن إسحاق " لابن هشام (1/547) - قال ابن إسحاق :
" وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير قال : لما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات – إلى أن قال - : فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها " انتهى.
فإذا تبين ما سبق عرفنا أن المنهج العلمي يقضي بترجيح الرواية الأولى على الثانية ، لأن الرواية الأولى صريحة صحيحة ، مروية في أصح الكتب بعد كتاب الله ، أما ما نقله ابن إسحاق عن محمد بن جعفر بن الزبير فغايته أنه من المراسيل ، فمحمد عاصر صغار التابعين ، ولم يدرك الصحابة فضلا عن إدراك زمن وفد نجران ، فالغالب أن الخطأ وقع في هذا المرسل ، وأن أوائل سورة آل عمران نزل في وفد نجران ، ولكن ليس إلى بضع وثمانين آية ، بل قبل ذلك ، ولعله إلى بداية الآية رقم : (62) ( إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإنها تشعر بانتهاء مقطع وفصل خاص ، وانتقال إلى معرض جديد فيه تقرير من وجوه أخرى لتوحيد الألوهية .
فالجواب الذي نراه متجها قويا هو ترجيح الرواية الأولى لصحتها ، وترك قوله في الرواية الثانية ( صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها ) لضعفها وإرسالها .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وقوله تعالى : ( تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) آل عمران/64. بعدها آيات نزلت قبل ذلك – يعني قبل قدوم وفد نجران - ، كقوله : (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ) آل عمران/70-71، فيكون هذا مما تقدم نزوله ، وتلك مما تأخر نزوله ، وجمع بينهما للمناسبة كما في نظائره ، فإن الآيات كانت إذا نزلت يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يضعها في مواضع تناسبها ، وإن كان ذلك مما تقدم .
ومما يبين ذلك أن هذه الآية - وهي قوله تعالى ( تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ) - لفظها يعم اليهود والنصارى ، وكذلك ذكر أهل العلم أنها دعاء لطائفتين ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بها اليهود ، فدل ذلك على أن نزولها متقدم ، فإن دعاءه لليهود كان قبل نزول آية الجزية ، ولهذا لم يضرب الجزية على أهل خيبر وغيرهم من يهود الحجاز " انتهى.
" الجواب الصحيح " (1/208-209)
ومع ذلك فقد أجاب أهل العلم بأجوبة أخرى نذكرها ههنا على سبيل الاستئناس .
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" الجواب من وجُوه :
أحدها : يحتمل أن هذه الآية نزلت مرتين ، مَرّةً قبل الحديبية ، ومرة بعد الفتح .
الثاني : يحتمل أن صدر سورة آل عمران نزل في وفد نجران إلى عند هذه الآية ، وتكون هذه الآية نزلت قبل ذلك ، ويكون قول ابن إسحاق : ( إلى بضع وثمانين آية ) ليس بمحفوظ ، لدلالة حديث أبي سفيان .
الثالث : يحتمل أن قدوم وفد نجران كان قبل الحديبية ، وأن الذي بذلوه مُصَالحةً عن المباهلة لا على وجه الجزية ، بل يكون من باب المهادنة والمصالحة ، ووافق نزول آية الجزية بعد ذلك على وفق ذلك ، كما جاء فرض الخمس والأربعة الأخماس وفق ما فعله عبد الله بن جحش في تلك السرية قبل بدر ، ثم نزلت فريضة القسم على وفق ذلك .
الرابع : يحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بكَتْب هذا الكلام في كتابه إلى هرقل لم يكن أنزل بعد ، ثم نزل القرآن موافقة له ، كما نزل بموافقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الحجاب وفي الأسارى ، وفي عدم الصلاة على المنافقين ، وفي قوله : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ) البقرة/125، وفي قوله : ( عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ ) التحريم/5 " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (2/56-57)
والله أعلم .